منهج الإمام الموسوي الخوئي في القيادة والتفكير
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله أجمعين
تختلف صلة البشر بالله عن صلته بمثيله البشري مع خضوعه في الحالتين لقوانين تنظيم العلائق فيما يريده من له الحق في ترسيمها وتحديدها. اذ لا يحق لأي بشري أن يرتبها دون الأسس التي تتحكم في جريانها بصورة مشروعة. ولا يمكن للإنسان أن يسن قوانينه دون مستند رباني لاشتماله على المحدودية الفكرية في تشخيص الأفضل والأنجع في التنظيم أو حل المشكل سيما مع استحالة خلوه من مشكل وسهولة حرفه عن السنة الإلهية الحاكمة عليه كعبد لله. وإذ تقرر لابدية خضوع الإنسان للقانون الرباني، لا بد أن تقرر وجوب تلقيه بطريق رباني مخصوص، وتتحدد هنا عملية الفهم للقانون وكيفية الامتثال على قدر ما يفسح في النفس البشرية من الخضوع لمن يختاره اللطف الرباني ممن له القدرة الخاصة على حمل المنهج الإلهي للبشر في قيادة تسمى نبوة.
إن مشكلة كل نبي في أمته هي صدهم عنه وعدم تصديقه وتلك ظاهرة تعم كل الرسالات وعندها تتحد القوة الإبليسية مع العناد البشري في إبقاء ما كان على ما كان ليصار حينئذ على الكيف الأنجع لحل مشكلة الصراع بين الحق والباطل حسب التقدير الرباني للحل من أجل إقامة حكم الله في الأرض لينطبق نفس القانون ـ بعين مواقف مقاومة النبي ـ على وصيه الذي يقيمه من بعده ولم يكن لأمتنا موقف يختلف عن ما حكم الأمم من سنن. إذ انحرفت عمن استخلفه الرسول بعده لتتميز القلة الثابتة معه ثم تكاثرت هذه القلة لتتكون أمة الرسالة الحقة. وحينما تقتضي طبيعة الحياة تواجد وصي الرسول الإلهي في مكان محدد ـ وانتشار من يؤمن به في كل مكان ـ كان لا بدّ أن يرجع المؤمنون إلى من يُفرِغ ذممهم من التكاليف الربانية ما داموا لا يستطيعون مشافهة الوصي بحل مشكلهم الشرعي، ولأجل هذا دلَّ الإمام عند تجدد المشكل الشرعي على مجموعة من فقهاء أصحابه فكان مثلاً يونس بن عبد الرحمن حجة يؤخذ منه معالم الدين باجتهاد منه كما يُفهم من الرواية الواردة حيث سُأل الإمام عنه، لا بنقل الرواية التي يعلم منها الحكم الشرعي. إن خطنا الفكري يستند إلى عدم أهليتنا كبشر في إقامة قيادة توصلنا الى الله عز وجل إذ هو الذي يُعيّن لنا شخصية من نتبع بواسطته المباشرة عز وجل أو بتوجيه من يعينهم قيادات ربانية كهداية البشر .
لقد تبلورت القيادة المرجعية بوضوح بعد الغيبة الصغرى ثم ثبتت جلية في مسألة إفراغ الذمة مع الله بعد أن ابتعدنا عن عصر الإمامة. إن المتخصص في إفراغ ذمة العبد من التكليف الإلهي هو الحجة الذي يُسأل عنه ذلك العبد في مسألة الإطاعة الكاملة بالالتزام بالأوامر والانتهاء عن النواهي.
إنني لست الان في سبيل عرض من استلموا قيادة الأمة بهالاتهم النورانية حيث هدوا إلى السبيل الأقوم وقد فرشت لهم الملائكة أجنحتها في جو الهي لتتاجر مع خالقها بكل دنياها صفقة واحدة من أجل أن ترتقي بعلم تهدي الأمة به إلى الحق ولكني أقف بخشوع عند إمامنا الخوئي (رضوان الله عليه) إذ هو أحد المفاصل الرسالية في هذا الدرب بل هو أحد المفاصل الأهم في تاريخنا العلمي والعقائدي.. وإذ أتحدث عنه فإني لا استند فيما أتحدث إلى قول سمعت أو قيل أو كُتِبَ عنه بل عما عشته مشافهة ومخالطة لهذه القيادة الروحانية الفذّة إضافة الى ما كان من معلومة عن طريق الثقات من الحلقة المخالطة للإمام.
لقد عرفت الإمام الحكيم رضوان الله عليه وأنا في السابعة من عمري وصليت خلفه بذلك العمر ملتزماً نهجه، وحينما شببت عن الطوق كنت أتفهم ـ حسب ما تحيط بي الأوامر ـ الكيف الحق في الاتصال بالإمامة والنبوة عن طريقه والمعنى في إفراغ ذمتي مع الله كما يأمر. إنني لا أتحدث من زاوية كوني انحدر من وسط لا بد أن يسير الدرب هكذا، نعم كنت مع جذوري ولكنها تلاقحت مع معرفتي فانفتح أمامي الطريق واضحاً جليا.
لقد بدأت رحلة جديدة بعد رحيل إمامنا الحكيم مع إمامنا الخوئي في هدي القيادة الإلهية التي توصلنا إلى الله. وإذ أحدث لنا الحكيم الإمام حسب علمي ومقارنتي مع من سبقه من القيادات الربانية منهجاً جديداً في العمل المرجعي فقد رَكَزَ إمامنا الموسوي الخوئي انعطافة تاريخية في وجودنا كأمة متصلة بآل محمد وفي رسوخ النجف كوجود علمي وحاضرة قيادة وفي تجلي عراقنا كموطن انتماء للرسالة الحقة ومعدن رجال حملوا على أعناقهم ثقل الرسالة الحقة منافحين عنها بالعلم والقلم والدم. لقد عَرَفَتْ النجف والحوزة السيد الخوئي في كيف تفكيره وأسلوب التزامه وثبات شخصيته ودقة نظرته وسعة تفكيره وصواب إحاطته بالأمور وقدرته على إيجاد أساليب التخلص من مزالق أعتى جبروت لسلطة ظالمة والحيلولة دونها ودون أن تطبق مخططها الرهيب كما هو مرسوم بحذافيره الشيطانية على العراق كعراق والنجف كنجف.
لقد أمسك الإمام الخوئي (رضوان الله عليه) بالنجف علماً وأسلوب تفكير، وَوَتَدَ قدمه بها قيادة إلهية حقة تنمية لها، وتسييسا وتسييرا وصيانة لكل الأمة عن أن تَزِلّ إلى منزلق، أو أن يحُاط بها فتنصهر بمناهج انحراف، أو أن تؤخذ بالغَلَبَة الى حيث لا تكون لها العروة الوثقى ليفسح حينئذ من جديد عصر ظلم وظلام لحجاج آخر.
لقد أبقى الإمام الخوئي النجف حية بوجوده هو كشخص وبفكره كمفكر وبأصالته كمقاوم ولم يكن الزمان الذي عاشه الا زمانا استثنائيا مع ما كان الذي يريده مخطط الانحراف لهذه البقعة المشعّة بالفكر والإخلاص من قصد في التدمير بأسلوب بشع.
لقد قدم السيد الخوئي الأجلّ والأرسخ والأقوم والأنتج والأبهى والأشجع في منهج إبقاء النجف والحوزة والعراق لم يرهبه مسيل الدماء وعروج الأرواح الطاهرة ظلما إلى الله ولم يُحِدْه عن الدرب الذي اختطه مسيل الضغوطات التي تعرض إليها في نفسه وفي أهله وفي ولده وفي درسه وفي تلامذته وفي حوزته إذ كان في كل ذا واثقاً بأن الظالم يحتاج الى حركة واحدة ولو صغيرة منه لكي يُجهز على الأمة بكاملها. وكان الظالم يناور ليجد ثغرة ولو من خلال خرم إبرة ليُنَفّذ ما اتُفِقَ عليه من ان لا تكون النجف علماً وطلبة وحوزة وكان الخوئي يعلم من خلال ما منحه الله تعالى من قوة في الفكر والنظر في الأمور فتجاوز كل استفزاز واندفع بقدم راسخ ـ والأزمات تتالى على الأمة تهز الجبل مُقَدّرة بالأيام بل بالساعات واللحظات ـ وهو ينتج ويمنح عطاء الفكر والرأي ويقود حتى كان يخيل لناظره أنه غير معني بما يجري مع أنه كان مع كل مشكل ـ وأنا العليم بذلك ـ ليضع لكل ما ينتهجه الظالم حلاً لإفشاله وكان (رضوان الله عليه) يستعد للمجابهة لو قُدِّر للظالم أن يتخطى حداً معيناً، لقد عايشت الشواهد بنفسي وجرى البعض منها أمامي. ولذلك فأنا لا أجافي الحقيقة إطلاقاً ولا أتجنى على التاريخ أو مجريات الأحداث إن قلت بأن الإمام الخوئي & هو من القلائل الذين تَقَوّم بهم مذهب آل محمد إذ قوّم في زمان شدة وردة حوزة النجف وأقامها ثم حفظها من التدمير وصانها من أن تضيع في متاهات الخوف أو اليأس أو الانتكاس نحو قيادات تأتمر بما يقوله الطاغية.. لقد خلت النجف أو كادت لأكثر من عقد من الزمان من العمامة الأجنبية إلا من بعض من الفضلاء الإيرانيين وغيرهم. وهنا كان العصب الأهم للعلم في حوزتها الشريفة مقوّم بالعمامة العراقية الى جنب من ثبت فيها ممن لم يرحل ناجياً بنفسه أو مختاراً لموضع آمن له ولِمَن يَعُول، والتف الكل الذي ثبت في نجف الشيخ الطوسي حول الإمام الخوئي غير مبالين بشظف العيش، ولا بكونهم ملاحقين من القوة الباطشة لنظام الموت واضعين أنفسهم وأبنائهم وأسرهم في كل ما هو مألوف في تلك الفترة مما يُخجل التاريخ الآدمي وكانت كل تلك العمائم ـ وكنا منهم ـ تَتِد في الأرض أقدامها لأداء واجبها تجاه القيادة الإلهية والحوزة والنجف.. لقد جابهنا كل شيء من اجل ان تبقى النجف يانعة وتبقى المرجعية قيادة ربانية مقاطعين كل عمامة خفضت الجناح للسلطة الظالمة وتماشت معها حتى إننا عشنا كل آنات الزمان منذ عام 1979 إلى عام 1990 في تَرقّب أن نُعتقل أو نُعدم وكنت أرى أبي (رحمه الله) لا ينام الليل إلا لمم، ثم يخرج بكل صلابة في الصباح ليتحدى الإرهاب ويُدرّس طلبته وكأن شيئا لم يحدث في مسائه الذي سُهّد فيه. لقد قادنا الإمام الخوئي في أظلم حقب زمان مرت على شيعة آل محمد لنعيش معه وعي التاريخ في الثبات الإلهي الذي ورثناه عن أئمة الهدى من آل محمد إذ كنا ندرس ونُدرِّس تَحُفُّ بنا أجنحة الموت ونحن بعزة الله قاهرين. وإذ ارتفعت ـ في تلك الفترة القاتلة ـ القيادة المرجعية للإمام الخوئي فسمت راسمة المجد في تاريخ الكفاح العلوي تحيط بها نفحات الرسالة ويشدها أسلوب الإمامة لتُخلِص في فعل ما أمر الله إذ وجدها في الطاعة غالبة للهوى لتكون في الفكر محطة فاصلة لبقاء المنتمين للنهج الأقوم لرسالة محمد | فلأن الإمام الخوئي قد ارتقى بالأمة في أقوم مسلك قيادي نحو القدرة على كيف الصمت في آن لتقاوم معه لتثبت، وإلى الجرأة في الكلام في آن آخر لتدافع وتتحرك وفي كل ذا كنا نلمس تسديدات الإمامة حين نصمت ثابتين وبالمنطق حين نتكلم متحركين. وإذا كنا نعتقد بأن الله تعالى يهيئ ـ لمن أخلصوا له العبودية ـ قيادات ربانية خاصة فإن السيد الخوئي هو المهيأ الرباني كقيادة إلهية.
وإذا كانت مقاومة الشخصيات الرسالية ومحاولة تشويه مناهجها تتناسب طردياً مع قدرة تأثيرها في مجتمعاتها فإن ما انفتح على الإمام من عقليات ظالمة وأخرى مظلمة من أحاديث ظلم على وسع ما ثبت في الزمان وما استجد من حقد متراكم على القادة الأبدال. وإذ أدلف إلى مختزني من تجربة شخصية أُقوّم بها عثرة مَن نَكَبَ الدرب فانكبّ فظلم متحدثاً عما لا علم له به أو مُحرّفاً الحقيقة نحو ما يبتغيه من مأرب. فإني أقول بملأ فمي ـ وأنا في صدد تجربتي مع السيد الإمام (رضوان الله عليه) ـ بأنني لم أخرج في انتفاضة صفر عام 1977 لأواجهه دبابات النظام وطائراته مع المواجهين إلا بعد أن أخذت منه رحمه الله مشروعية مسيري إلى الحسين × آنذاك كإمام لي ومقلَّد كما إني لم أمشي على قدمي مع السائرين إلى كربلاء في زمان كان من يسير إليه يودع حياته ويسير، إلا بعد أن وافق على أن نخرج لسيد الشهداء بالشروط التي وضعها هو.
إنني لا استطيع أن ادخل في تفاصيل أحداث أخرى كانت ولا زالت مدار جدل ومثار نقاش ممن لم يعِ خطورة ما كان مِن حدث في النجف كما لا أبغي الولوج إلى ما تناقشنا به مع السيد عن طريق السيد والدي (رحمه الله) وغيره كشباب نجفي عاش محنة تلك الفترة بتفاصيلها الرهيبة ومنزلقاتها المؤدية إلى الزنزانة فالموت.
وإذا تركنا هذا الجانب لنتحدث عن آخر فإنني استطيع القول بأن الامام الخوئي منارة علمية تتكرر في النادر في الزمان لتشخص مع من جدد فكر آل محمد فأغناه بكل ما هو عميق ومتطور ومستجد لكل من وصل ويَصِل الى القدرة على استنباط الحكم الشرعي، ويكفيه رفعة في القيادة العلمية أن جُلّ من يُدَرّس العلوم الحوزوية اليوم أو يقود التقليد في بقعة للتشيع واحد من تلامذته أو تلميذ لأحد تلامذته لقد وهب الله عز وجل الإمام الخوئي قدرة عجيبة على التربية العلمية لعشرات المئات من النوابغ خلال أكثر من نصف قرن متواصل لم ينِ عن إعطاء المعلومة آن أو التربية الروحية زمان ومن ثَمّ تميز متفرداً في التفكير المنهجي المعمق وعلا فائقاً سواه في تنمية التفهيم والدقة في الموازنة بين ما يمتلكه من مقومات شخصية وطاقات علمية وبين من يخاطبه في مطلب ما لأجل إقناعه علمياً أو قيادة. وإذا كان لي اختيار مشخص أضع في الإمام الخوئي من ناحية التقييم القيادي فإني أختار له الموضع الوسط في المنهج ما بين من حمل شعلة الاندفاع من أجل الإيجاد والخلق لتكون الحوزة النموذج حسب ما يرى والمجتمع الأمثل وفق ما تصور، وما بين التأني الممتزج بالتعقل والهدوء المتشابك بالتفكير في الخروج إلى المنهج الأحسن والأسلم للاثنين وبالأخص حين اشتداد الاكتساحات القاتلة للحوزة الشريفة أو الثلة الثابتة لشيعة آل محمد، وإذا كانت الساحة متفجرة من الأسى أو الغيض للأحداث التي تمر بها وعليها كان هو يقلب الأمور للوصول إلى أنجع طريق للثبات، وإذا كان سواه الذي يعيش في راحة من عبئ القيادة يريد منه ما يريد حسب ما يريد ويفهم فإنه كان يقود هادماً بهدوء ما يؤسسه الظالم لتنفيذ ما يبغيه ذلك الظالم من غايات. لقد امتلك السيد الخوئي عقلية كبرى انبثق منها فكر جديد وطريق خاص وأسلوب ناجح لقيادة الأمة في أحرج فترة تاريخية ولا أدلّ على ذلك ما عايشته عن كثب منذ الابتداء بتنفيذ المخطط الدولي لشل العمل المرجعي في العراق من خلال إنبات سلطة أحادية النظرة أُميّة التفكير شوارعيّة المسلك والتصرف بدأت الحكم في العراق بنزيف دم تحول الى مسيل يجري بلا انقطاع. وحينما انتصب الإمام قائداً بعد إمامنا الحكيم وحمل اللواء كانت الأحداث تتسارع والميزان يختل، وسارت سفينتنا بقيادته في بحر لُجّي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات ثلاث إذا اخرج الراكب يده لم يكد يراها، ويعرف ذلك كل من عايش سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته ولكن الذي عاشها على هامشها دون أن يلج في مساراتها الملتهبة لا ينفع معه أن يُذكر بما مرّ بنا ليفهم!! .
لقد اثبت السيد الخوئي منذ استلامه القيادة المرجعية انه هو هو الكل الروحاني والعملي للأمة وأنه هو كل المشخص العملي الفكري للقيادة المرجعية ليكون في كفه كل المنحى التاريخي الذي تجري فيه الأحداث وتتصاعد ولذلك تعامل (رضوان الله عليه) مع مجاريها حيث تعامل والأساس الأهم بما تعامل وأدار وأجرى وناضل وكافح وتألم واضطهد هو إثبات الأمة على صخرة المعتقد الحق واثبات النجف كمدينة وكعلم وكعمل في منهج القيادة.
إنني حينما أصل إلى هذه النقطة لا استطيع أن أتكلم بما اعرف عن بعض ما انتهجه الإمام الخوئي في المواجهة مع السلطة الدموية في العراق لأنني محكوم باعتبارات تصدني عن أن أتحدث بطلاقة ما عندي من معرفة ومع هذا فإني أستطيع القول بكل ثقة العارف أن الإمام الخوئي كان في سبعينات القرن الماضي وثمانيناته كل امة علي بن أبي طالب × في العراق بكل شرائحها وطبقاتها بل وكان كل فصائلها في كل فصائلها والعملاق الذي احتضن كلها جميعاً فحماها من أن تزول في دموية إرهاب فُصّل لها كي تزول أو أن تَزِلَّ في مبادئ انحراف فصلت لها كي تكون بديلاً عن مناهج الحق وإذا طوينا صفحة عشرين عام ووصلنا إلى الفترة العملية التي تجلت فيها القيادة الميدانية للإمام فستكون أمامنا الانتفاضة الكبرى في عام 1991 وفيها تحمل هذا القيادي الرباني بقوة الفكر والمعتقد وعمق الرأي في الادارة كل شيء وأخذ على عاتقه في أصعب فترة مسؤولية الاحداث وما تؤول إليه من علو النجاح أو ما ينفرز منها من نتائج... إن الذي أنهج الإمام الخوئي في ذلك الزمن الصعب هو واجب القيادي الإلهي للأمة وحين ذاك لم تحط به فكرة حياة النجاح أو مقتل الفشل بل كان همه هو احتضان الأمة من أن تضيع حيث اختفت السلطة بكل دمويتها من مكان السلطة ومن الشارع فنزل بقيادته الى ساحة الترتيب والإدارة وأمسك بالزمام لا لكي يستلم سلطة بل ليحفظ حدود الأمة من أن تذهب ريحها أو تفشل مقوماتها وإذا كان مَن نظر فقلّب نظره في انتفاضة الشعب عام 1991 من بعيد فأنا شاهد من داخل الحلقة المحيطة آنذاك بالسيد الإمام من خلال والدي (رحمه الله) الذي رأس لجنة إدارة النجف التي اختارها هو شخصياً ومن خلال تواجدي في الشارع مع المنتفضين وأنا أحمل ما احمل دفاعاً عن العقيدة وعن النجف عارفاً عالماً مستبصراً بمنحنيات تفكيرها واتداً العزم عن بصيرة في إطاعتها رغم أني كنت عارفاً بكيف شارعي ودهاليزه النفسية المتعرجة، وأقول بألم لقد كان البون شاسعا بين تفكير القيادة الإلهية وبين ما يجري في شارع الأمة من أفكار واعذروني أن انتهجت ضبابية التفكير.
لقد رتبنا أمورنا بعد الفشل الذي أصابنا وانتقلنا نحن (كعائلة) مطاردين هنا وهناك وتلك مسألة أخرى لعلي أتكلم عنها حينما أتكلم عن رحيل إمامنا وقائدنا ومرجعنا عن عالم الدنيا بعد أن أسَرَه الطاغية وبلغ به الأسى ما بلغ وأحاط به الألم ما أحاط.
وإذا شئت أن أتكلم بصورة عامة عن الإمام الخوئي فإنني أقول:
أولا: كان الإمام الخوئي انعطافة إلهية خاصة في القيادة المرجعية لدى الشيعة الإمامية في النجف كمركز قيادة لهم في كل أنحاء يتواجدون فيها على الأرض.
ثانيا: انه هو الذي ثبت القواعد العلمية في الحوزة العلمية وصانها من ان تتميع او تخرج في مناهج التدريس إلى أساليب السطحية في الأخذ والسطحية في التفهيم ومن ثم الإبقاء على النجف الإشعاع الرسالي الأمثل للإسلام الحق في الأرض .
ثالثا: لعل الحق مع من يرى بأن الإمام الخوئي هو المؤسس الثاني للنجف كحاضرة علم بعد مؤسسها الأول الشيخ الطوسي (رضوان الله عليه) بما أمسكها بقوة الإيمان الحق أمام من كان مصمماً على إزالتها.
رابعاً: رجوع المسيرة التدريسية اليوم لعلمائنا الأعلام فيما نسميه بالبحث الخارج في الفقه والأصول إلى الفكر العلمي للإمام الخوئي كون جلّ من تَلَمّذَ عليه يمتلك كرسي تدريس يصب في المسيرة العلمية لمنهج آل محمد.
خامسا: لقد انهج السيد الخوئي طريقة خاصة به في التفكير العلمي وإذا خالفني احد في هذا فله شأنه إذ أنني هكذا فهمت الأمر من خلال دراستي المقارنة واطلاعي على منهج الإمام في التحليل والتفكير والاستدلال ومنهج سواه
سادسا: إن كل ما تزاحم على الإمام أو ازدحم حوله أو تكلكل عليه أو ألقى جرانه فوقه لم يبعده عن المطلب العلمي ولم ينأ به عن التفكير به فقد كان معه حتى وهو جالس في فاتحة أخيه في جامع الخضراء اذ التفت مع انشغاله إلى احد طلبته الذي دخل وجلس بعيدا عنه بخمسة أشخاص مشيرا إلى ذلك الطالب إن المطلب العلمي الذي ناقشه به قبل أيام هو موجود في الكتاب الفلاني.
وإذا كانت الفترة التي عاشها الإمام الخوئي في جزء منها امتداداً للفترة التي عايشها الإمام الحكيم فإن الأسلوبين يختلفان في معالجة الحدث وإن كان الإمام الحكيم لا يزال يعيش في ضمائرنا بمواقفه وتمدداته وأفكاره وانفتاحه إلا إننا لا زلنا في أسلوب السيد الخوئي وفكره ومنهجه وطريقة إدارته وإنني من هذا الموقف أقول بأنني مطمئن على المسيرة ان تكون على الطريق الإلهي ما دامت بيد من ارتضاهم الله أن يكونوا ولا زال تلامذته بيننا يرفعون الراية عالياً ولا زالت القيادة الحكيمة تقود على ما أثبته الأستاذ الخوئي وإذا أنعمنا النظر في هذه الفترة فسنجد انعطافة أخرى في الإيجاد والتأسيس والإثبات.. والى هنا لا بد لي أن أقف عن الكلام حتى لا أدخل في الحديث عما أخشاه على الأمة وأخافه. إن الذي ألتمسه من الله الرحمن الرحيم اللطيف الودود أن لا يتحقق ما أرى إرهاصاته بادية تلوح مع الدعاء لإمامنا العلي السيستاني وأخوته من مراجعنا العظام بطول العمر ودقة التسديد.
محمد رضا الغريفي
النجف الأشرف